الفصل الحادي والعشرون
لم ينعم بقسط من الراحة او حتي اغفلت عينه من وقت أن تمت مراسم الدفن، وكأنه يغشى أن يغلق جفنيه وتتكرر مأساته برؤية دلك المشهد المولع للقلوب، وهذا ما حدث بالفعل عندما غفى صابر وهو ممد بجانب زوجته في فراشهما بعد ما عانوه في تلك الليلة الصعيبة على الى الجميع
إلا أنها هلعت وجحظت عيناها اثر صراخه وشرعت في محاولة إيقاظه وتهدئته.
-صابر قوم يا صابر إنت بتحلم فوق.
-لاااااااء حرااااام مش ممكن تكون النار حرقت أبويا كده مش ممكن يكون هو اللي عمل في نفسه كده أبداً مش ممكن.
-قوم يا صابر قوم.
-مريم أنا أنا...
-إنت إي مالك بس يا حبيبي ايه اللي جرالك بس.
-أنا خايف يا مريم خايف خديني في حضنك وضميني أوي.
-حاضر يا يا حبيبي، يا لهوي إنت بتترعش كده ليه وجسمك ماله سخن كده، أنت كنت بتحلم بكابوس أكيد طب أحكيلي شوفت ايه.
-شوفت درية وهي بتقطع في لحم أبويا وهو كان بيحفر حفرة كبيرة كل ما يحفر فيها تقيد فيها النار ودرية تضحك وترمي لحمه فيها وبعدين مسكها من شعرها بأيده اللي كلها دم و رماها في قلب الحفرة وفجائة لقيته لف ليا و
جسمه كله قاد نار وقالي هي حاولت تقطعكم مني بس انا قطعتها هي من الدنيا وسابني ونزل في حفرة النار برجليه وهو عمال يضحك.
أستمعت إلى كل كلمة قالها بإتقان إلى أن أنتهى، ضمته جيداً وكأنه طفلها الصغير ظلت تربت على ظهره وتهمس في أذنه ببعض السور القرأنية القصيرة إلى أن هدئت أنتفضته وغفى مرة ثانية بين ذراعيها،
لم تخشى ما قاله ولم تكل لكنها صبت كل تفكيرها في أن تكون زيارة النغاس الكبير له منامه بهذه الطريقة المرعبة
ليس إلا ليخبره بأنه هو الفاعل، أم تكون كل أحلامه المفزعة هذة نتيجة حتمية من هول ما رأى يوم الحادث.
ما كان منها إلا أن أستسلمت لهذا الاحباط الذي أمتلكها وتمدد بجانبه لتحاول أن تعثر علي النعاس ثانية.
أهِ من الوحدة وقسوة التفكير، وأه من الحصرة والخوف من المجهول، واهِ من قهرة الرجل حين لا يقوى على كبت عبراته.
على ذلك الفراش الذي كان يحاول ان يجمع حبيبته عليه بالأمس القريب جلس حسن يبكي كالأطفال وحيداً داخل شقته، ضاع من بين يديه كل شئ بلحظة، المال والجاه حتى حنان الأب والأم حرم منهم، والأخ السند الذي كان
يلقي كل عاتقه عليه اين هو الأن، كان من المفترض أن يلقي نفسه بين ذراعيه ليشدو ويفيض بحزنه على كتفه لا أن يزجرو بعضهم ويبتعدو مرحبين بالعداء بينهم
العداء نعم هذه هي الكلمة الوحيدة التي تربطهم سوياً الأن وعليه أن يغتصب حقه بالكامل منه حتى وإن كان سايأخذه بقتله هو ومن يتصدى له،
لكن هذا لن يحدث دون تخطيط زكي جداً، فهو يعلم جيداً أنه أضعف من صابر وستخذله قواه أمامه لذلك عليه أن يتحلى بالصبر يفكر بمكر.
وبمرور الأيام بدئت الحياة تسير في مجراها الطبيعي وعاد صابر يمارس روتين يومه العادي يذهب في الصباح إلى العمل ويعود في منتصف النهار بوجهه الواجم الى عنيدته التي رفض رفضاً تاماً ان تعود إلى عملها بعد أن حاولت ان تفرحه وتخرجه من شرنقة حزنه بخبر حملها
لكن ولسوء حظها شعرت بزيادة خوفه وجمود إحساسه بمجرد أن أعطته في راحته صورة الأشعة.
-مش فاهم إيه الورقة دي يعني.
حاولت ان تخفف من حدته قليلاً ببسمتها.
-دا يا حبيبي اسمه سونار يعني صورة أشعة عملتها النهاردة عشان أتأكد من حاجة انا واثقة انها هتفرحك.
ما زاده حديثها إلا وجوماً ،إذ قضب بين حاجبيه مستفهماً.
-تفرحني ايه! إنتِ ازاي خرجتي النهاردة من غير ما تعرفيني.
- اطمن يا سيدي اخدت الحارس معايا، أصلي حبيت أعملك مفجائة انا واثقة انها هتفرحك.
تنهد مزفراً حزنه بقسى وأحنى رأسه دليلاً على فقده لأي حافز.
-مفجائة ايييه،
تفتكري في حاجة ممكن تفرحني في الأيام السودة اللي احنا بنعيشها دي.
التفتت اليه زاممة شفتيها، لكن كعادتها قررت ان تواجهه.
-بس بقى يا صابر كفايك حزن، بطل بقى توجع قابي عليك كده.
ضمها تحت ذراعه، لتستمع لنبضات قلبه الضاربة كالطبول مقبلاً رأسها.
-سلامة قلبك يا روح قلبي بعد الشر عليكي من الوجع يا مريم، يلا قوليلي بقى كنتي فين النهاردة وإيه البتاعة اللي في إيدي دي.
رفعت له رأسها لترغمه على الإبتسام لنظرة عينيها.
-أنا حامل يا صابر
تفاجئ بتلك الكلمة التي اسقطت الدمع من عينه وجعلت حزنه يتحول إلى سعادة.
-حامل بجد يا مريم قولي والله طب عرفتي إمتى وليه ماقولتيش ليا.
-من يومين كده كنت شاكة وخليت الناني تجبلي اختبار حمل وطلع ايجابي، بس قولت لازم أتأكد قبل ما أقولك عشان أكون متأكدة مم فرحتك دي يا حبيبي.
كل كلمة كانت تتفوه بها كانت تتلقى مقابلها قبلة رقيقة على جبينها نزولاً إلى وجنتيها ثم يغمر وجهه في ثنايا عنقها إلى أن توقفت عن الهمس رغماً عنها حين أبتلع كلمتها داخل شفتيه مغلقاً على فمها الصغير.
وبعد أن هدئت موجة عشقه، قرر ان يقتسم ما بداخله من أفكار معها.
-إنتِ مش بس حبيبتي يا مريم، لاء إنتِ كل مادة بتثبتيلي إن أختياري ليكي كان صح، إنتِ احسن جايزة ربنا رضاني بيها يا حبيبتي.
رفعت إبهامها تحاول تجفيف عبراته التي خانته واسترسلت على وجنتيه.
-انت بتعيط يا صابر قد كده فرحان يا حبيبي.
-فرحان اه طبعاَ دانا طايرمن الفرحة بس خوفي عليكي اكتر بكتير من فرحتي، عشان خاطري بلاش تخرجي او تعملي اي مفاجئة تانية من غير ما تعرفيني، أنا مش هارف هو بيفكر ازاي دلوقتي.
وكأنها تخبره أنها ضاجرة غير مبالية بخوفه هذا، زفرت أنفاسها معتدلة في جلستها وبكل راحة اردفت.
-هو ظهر أخيراً.
-لاء لسه ماظهرش وهدوئه دا هو اللي قالقني.
-أنا مش فاهمة إنت خايف منه كده ليه، مع أنه عيل جبان بيبقى عامل زي الكتكوت المبلول قدامك.
برغم ما هو فيه من حزن إلا أن تشبيها جعله ينفجر ضحكاً.
-يا لهوي عليكي وعلى تشبيهاتك يامريم، يا بت ماتضحكنيش وانا مكتئب كده.
حاوطت عنقه بيديها وهي تشاركه الضحك مؤكدة عليه.
-لاء بقى هضحك ومش هاسيبك غير لما تقول خلاص نسيت الحزن يا مريم.
-إنتِ فرحة ايامي يا أحلى مريم.
-حبيبي إنت ربنا يخليك ليا ومايحرمنيش من ابتسامتك دي ابداً، عشان خاطري يا صابر إنسى الحزن دا بقى وخلينا نعيش حياة طبيعية.
-أنساه ازاي بس يا قلبي، طب لو نسيته هنسى الخوف اللي محاوطني من كل ناحية،
دانا لسه بتجيلي كاوبيس من ليلة الحادثة، أنا بجد خايف ايوا هقولها ومش هخبي عليكي يمكن تبطلي تعنديني وتسمعي كلامي شوية،
أنا خايف من حسن يا مريم.
-ماتحولش تقنعني أنك مش هتقدر على حسن يا صابر دانت بضربة من ايديك بتوقعه في الارض مغمى عليه.
اعتلى جانب شفاه بإبتسامة ساخرة ورمقها بجانب عينه.
-مش بالجسم يا قلبي، حسن ضعيف اه بس وارث المكر من أمه ولما شيطانه بيركبه مش بيرتب للنتيجة.
-أنت هتخوفني ليه، طب بقولك ايه ما تروحله اعرض عليه مبلغ محترم كده، دا برضو اخوك، اهو منها يشيلهالك جميلة ومنها تتصالحو ونفضنا من الحكاية دي بقى.
-لاء طبعاً عايزاني اروح استسمحه واقوله تعالى نتصالح والنبي أنا اخوك ومحاصلش حاجة.
-أنا ماقولتش كده انا بقول تديله حقه في ميراث ابوه عشان تفضه الخلاف مابينكم.
أشَتعلت عينيه كجمرتان من النار بمجرد أنها ذكرت كلمة حقه وهي تعلم جيداً من هو صاحب الحق الأصلي.
-حق مين يا أم حق انتِ، مانتي عارفة كويس أوي إني أنا صاحب كل حاجة وإلا ماكنش أبويا الله يرحمه سكت عليا ومن دلوقتي هتبقى كل حاجة ملك للي في بطنك بس هو يجي ينور دنيتي.
وضعت يدها على صدره قاصدة تهدئة تلك الطبول التي تقرع بين ضلوعه وإذا بها تردف بحنان.
-بس أنا عارفة إنك طيب يا صابر، ومش ممكن أخوك هيهون عليك.
-تفتكري حتى لو أنا هونت عليه.
-صدقني يا حبيبي مش هتهون، لسبب واحد بس هو إن أخوك أتفه من كده بكتير.
اخذ من أسمه قسطاً وتنهد بصبر.
-بكره نشوف.
إنها الثامنة صابحاً مازل يجلس داخل سيارته يراقب المدخل الرئيسي لجراچ السيارات حتي يتثنى له رؤيتها وهي تلج بسيارتها بداخله لتصعد إلى شركتها.
وها هي قد حضرت وترجلت منها، ليزفر شوقه اللعين إليها ويترجل هو الأخر من سيارته مغلقاً بابها بقوة لينبهها بوجوده.
-حسن.
هكذا همست حروف أسمه بشفتيها أمام عينه، ليحتل الضعف مكان الغضب ويحني رأسه محاولاً ألا ترى شوقه الذي يجتاح قلبه.
برغم ما فعله بها يوم الحادث، إلا أنها شعرت بحزنه وولم تشعر بقدميها التي اسرعت الخطى نحوه، وبدون أن تشعر ألقت بنفسها بين ذراعيه.
-حسن إنت وحشتني أوي، عامل إيه دلوقتي أنا كنت عايزة أكلمك عشان أطمن عليك بس خوفت تهاجمني زي المرة اللي فاتت.
كل ما فعله أنه زجها برفق ليبعدها عنه ثم نظر في عيونها نظرة طويلة ونطق بكلمة واحدة.
-مش كويس يا ليلي.
تلفتت حولها ثم وضعت راحتها في كفه مجبراه على ان يحرك معها.
-مش هنتكلم هنا تعالى معايا نطلع مكتبي ونقعد نتكلم براحتنا.
-لاء
قاطعة نافية كل ما تفكر به، حتى انه نفض يده من يدها متجهاً نحو باب سيارته.
-ماعنديش كلام عشان أقوله، أنا جيت لحد هنا بس عشان أشوفك لأنك وحشتيني، لكن إن كان عليا فامفيش حاجة اتغيرت لسه وحيد منبوز من الكل بعد ما اللي كانوا بيحبوني راحو هما الاتنين في يوم واحد.
-بس أنا لسه موجودة يا حسن.
قالتها بتلهف لتجبره على الألتفات إليها.
-حتى لو إنتِ لسه موجودة، صابر هيفضل بينا.
-دا أخوك.
-هاقتله.
شهقت بفزع وقد ألجمتها الصدمة و
رحل حسن وتركها برأس متخبط من كثرة الخوف والتفكير، وما كان منها إلا أن اسدلت هاتفها لتأتي برقمه وتسرع في الأتصال به وهي تجري نحو المصعد لتصعد إلى مكتبها.
كان هو أيضاً متجهاَ بسيارته إلى المقر الرئيسي لمجموعة الشركات ليتفاجئ برنين هاتفه ويجيب الأتصال.
-ألو صباح الخير يا ليلي.
-صابر إنت فين طمني عليك إنت كويس يا صابر.
قضب ما بين حاجبيه من الصدمة وحاول ان يفهم معنى حديثها.
-أيوا أنا كويس مالك يا ليلي في حاجة حصلت.
بالله كيف تخبره بذلك هي لا تريد أن يتفاقم الأمر بينهم ويكره اخيه أكثر من ذلك لكن عليها أيضاً أن تحزره.
-لاء لاء مافيش حاجة بس أنا كنت عايزاك تزود الحراسة شوية او حتي مش تمشي من غير حارس خاص بيك إنت.
-ممكن تهدي عشان أفهم إنتً بتقولي ايه وليه خوفك دا كله.
-أصل أصل حسن كان هنا و...
-و إيه أوعي يكون أزاكي او عملك حاجة.
-لاء لاء مش عمل حاجة دا قالي انه جاي عشان بس يشوفني بس كمان قالي إنه هيقتلك.
إبتسم بهدوء وعلى ما يبدو أن ظنونه كانت صحيحة لكن عليه الأن ألا يزيد من خوفها.
-ماتخافيش يا ليلي حسن دايماً بيتكلم لكن عند التنفيذ مابيكملش.
أغلق معها الهاتف واصطف سيارته في مكانه ثم توجه إلي داخل الشركة وهو يرى سيرة اخية المصطفة على الجانب الأخر.
فتح باب مكتبه ودلف منه ليجده يجلس بداخله بكل راحة على مقعد رئيس مجلس الإدارة والذي اصبح ملك صابر من قبل وفاة والده.
-أهلاً.
-أهلاً بيك يا أخويا.
-خير يا ترى إيه سبب الزيارة.
-الله جاي اشوف شغلي يا صابر ولا إنت ناسي إني موظف في الشركة دي.
-وظيفتك تحت في الأرشيف مش هنا و في مكاني.
-لاء ما هو هيبقى مكاني أنا لما انت تموت.
إبتلع تهديده الفظ بمرارة قاسية، وجلس على المقعد أمامه منحني الرأس والحزن يكسو وجهه بالكامل.
-أمم بتهددني بالقتل يا حسن.
-لاء انا مش بهدد أنا هقتلك فعلاً يا صابر
-طب ازاي هتقدر تعملها وتقتل اخوك اللي رباك وياما شال عنك هتقدر تقتلني يا حسن.
بكل سخرية أجابه
-اه هقدر بص انا عارف إنك أقوى مني طبعاً واني ماقدرش أعملها بأيدي، بس في ألف طريقة غير دي أقدر اقتلك بيها.
رد له سخريته بضحكة مستهزئة وتلتها كلمات مثقلة بالوجع.
-ياه يا بن ابويا دانا حياتي رخيصة عندك اوي يا خسارة يا حسن وأنا اللي كان في نيتي ان اجيلك ونقعد انا وانت ونفض اي خلاف بينا ونتقاسم سوى في كل حاجة.
-هاء للدرجة دي خايف مني يا أخويا، بس لاء يا صابر حتى دي انا مش هرضى بيها وصدقني زي ما أخدت مني كل حاجة وحرمتني من ابويا وامي
انا هرجع كل حقوقي تاني وفوق دا كله هخلي عيلتك الجديدة يترحموا عليك ومش بس كده دانا هاحرق اي حد قريب منك وبيحبك زي ما اتسببت في موت أبويا وامي محروقين.
-أخرك هاته يا حسن، وريني هتقدر تأذيني ازاي وانا هستنى أذيتك دي بس صدقني لو نجيت منها مش هرحمك وختبقى انت اللي جنيت على نفسك وهخليك تحصل أبوك وأمك في ساعتها
أما دلوقتي بقى فانا مش عايز اشوف وشك تاني، إطلع برة أملاكي يا حسن يا نغاس.
-تمام يا صابر هاطلع من أملاكك بس أوعدك الحكاية مش هتطول كتير سلام يا أخويا.
اغلق حسن باب المكتب خلفه وتركه جالساً وحده يتجرع مرارة كلمات أخوه المؤلمة
ويفكر في القادم، كانت زوجته بالأمس تحاول ان ترقق قلبه على من يعتبره إبن قبل أن يكون أخ له والأن يأتي إليه ليقولها صريحة
سأقتلك يا أخي
لكن هل سيقف مكتوف الأيدي ويتركه يفعل ما يريد!
لا عليه أولاً ان يزيد من أمن زوجته ولينتظر بعد ذلك حدث حسن.