الفصل الثاني والعشرون
دق جرس الڤيلا الداخلي، و فتح عبدو الباب ليقابل في وجهه اللواء أدهم.
-اهلاً اهلاً اتفضل يا سيادة اللوا.
-ازيك يا رجل يا طيب، عامل ايه يا عم عبدو.
-الحمد لله يا باشا بخير.
-و الباشا بتاعنا اخباره ايه، هنا و لا في المسجد، و لا لسه مجاش من المقابر.
-هنا يا باشا بس نايم في اوضته، ثواني و هاصحية لحضرتك.
ليلتفتو الي خطواته الهابطة على الدرج.
-انا صاحي يا عم عبدو، اتفضل يا سيادة اللوا.
قالها صقر و هو يترجل علي الدرج.
-اهلاً يا صقر عامل ايه.
-الحمدلله انت ازاي حضرتك، اتفضل نقعد في المكتب، اعملنا قهوة يا عم عبدو.
-حاضر هاعملها و اجيبها ليكو، اتفضلوا انتو ادخلوا.
دلف معه لغرفة مكتبه وجلسوا سوياً.
-هتفضل كده لحد امتى يا صقر.
القى بجسده على المقعد و انحني للأمام.
-مالي بس يا جماعه كل اللي يكلمني يقولي كده، ما انا في حالي اهو، و بعدت عن الكل كمان.
جلس اللواء أدهم في مقابلته، ليخبره انه يحثه للرجوع الي حياته الطبيعية.
-مين قالك ان احنا عايزينك تبعد، بالعكس احنا عايزينك ترجع زي الاول، ترجع لشغلك في المجموعة بتاعتك.
-و ترجع لشغلك معانا، ترجع للناس اللي بيحبوك و انت بتحبهم، ترجع لحياتك يا صقر.
احنى رأسه اكثر و همس.
-هي كانت حياتي كانت عندي بكل الناس.
-و ابنك ما هو جزء من حياتك بردو، و اظن يعني انه حتة منها، يعني المفروض بدل ما تبعد عنه كده تعوضه عن بعدها، و تاخده في حضنك يا صقر.
هز رأسه يميناً ويساراً بعلامة النفي.
-مش قادر كل ما احاول اقرب منه، اخاف و أقول لنفسي يمكن لو قربت منه، و اتعلقت بيه يبعد عني زي امه ما بعدت بالظبط.
عنفه اللواء أدهم على تفكيره الغبي.
-ايه الكلام اللي بتقوله ده، الأعمار بأيد الله اومال صلاة ايه و دين ايه اللي مابقتش تعرف غيرهم، المفروض ان ابنك ده امانة مامته سابته ليك.
تلك الكلمه رنت داخل اذنه، سمعها جيداً و فهم على ماذا كانت تشير بها زوجته.
أمانة!
-ايوا يا صقر امانة، و ياريت لو بتحب مامته صحيح تحافظ علي الامانة دي.
صمت قليلا يتذكر كلامها ثم هتف.
-معاك حق يا سيادة اللوا انا لازم أحافظ علي الأمانة دي، كويس اوي و هاعوضه بإذن الله هو و جدته عن غياب روحي، و انا ربنا يلهمني الصبر علي بعدها.
ابتسم له و اتجه بالحديث الي الموضوع الرئيسي الذي اتى من أجله.
-انشاءالله ربنا يصبرك، بس كمان لازم بقي تفوق لشغلك، و تسيبك من حكاية زيارة المقابر كل يوم دي.
-سيبها علي ربنا يا سيادة اللوا، و ان كان علي الشغل ان شاء الله هبدء افوق نفسي، و ارجع المجموعة احسن من الاول.
-و انا مالي و مال المجموعة و شغلها، انا بكلمك عن شغلنا احنا، انت ناسي انك كنت اكبر مورد اسلحه لينا ولا ايه.
-لاء حكاية السلاح دي خلاص، انا مش ناوي اشتغل فيها تاني.
-انت بتقول ايه بس يا صقر، اولاً انت ماكنتش بتشتغل معانا شغل مشبوه بالعكس، انت لو وقفت الشغل بينا، كده تبقى بتضرنا، و متنساش انك كنت وسيط بينا و بين الناس في روسيا.
اومئ له بجدية، فهو بالفعل مشتاق الي عمله.
-حاضر يا سيادة اللوا، بس اديني فرصه ارتب اموري و اعيد حساباتي.
-أوك يا صقر رتب امورك براحتك، و ابقى كلمني، اقوم انا بقى و اسيبك عشان تلحق تروح لأبنك و جدته.
سلام يا صقر.
-مع الف سلامه، و متشكر لحضرتك اوي
و في بيت الجدة لبنى، حاول مازن ان يسيطر على بكائهم.
-كفاية بقى عياط يا اميرة.
التفتت له زوجته بعين تزرف الدمع وتشهق من شدة بكائها.
-و الله مش قادرة يا مازن، انا مش قادره اتصور ان فات سنه علي فراقها.
-ما هو طول ما انتِ بتعيطي، هي مش هاتسكت حرام عليكم بقى، انتو رعبتوا العيال خلاص بقى يا طنط لبنى عشان خاطري.
كففت الجدة لبنى دموعها أيضاً.
-خلاص يا مازن انا هاسكت، بس صعبان عليا جاسر اوي،
اتيتم ام و اب، و ابوه عايش و حارمه من حبه و حنانه.
-و الله يا طنط صقر حالته تصعب علي الكافر، دا من ساعة اللي حصل و هو اتبدل خالص.
دق خفيف علي الباب، و فتحت امل الخادمة لتجده يقف امامها بكل هيبته، و بحلته السوداء و لحيته البنيه الكثيفه.
وقف مازن من خلفها و هو يحمل الصغير علي ذراعه مندهشاً
-صقر!
ابتسم والدموع تلمع في عينه و همس..
-هو ده جاسر ابني؟
ليكركر الصغير بمرح و يهتف له.
-بابا.
مد يده ليحمله من على ذراع صديقه، و لكن الطفل ابى ان يذهب اليه،
بل ظهر خوفه علي وجهه فجائه، و دثه بالكامل داخل صدر مازن.
وضحت ملامح الحزن عليه هو الاخر، يا لها من لحظه موجعه، يرى ابنه امام عينه و لا يقوى علي حمله.
ليتفاجئ أيضاً بوالدة زوجته، تلقى عليه اللوم نظير بُعده وجفاه.
-لسه فاكر تيجي تشوف ابنك دلوقتي يا صقر.
سقطت تلك الكلمات علي اذنه كخناجر تقذف في صدره منها، هي تلك السيدة التي اسقطها القدر في طريقه، و لم تقابل منه غير المصائب.
-وحشتيني يا ماما لبنى.
اقترب منها قبل جبينها، و ابت الدموع ان تصمد في أعينهم حين تلاقت.
ضمها الي صدره و هي تبكي بشده، و هو ايضاً بكى، بل انهار داخل ذراعيها، و كأنه مشتاق لضمة والدته.
و بعد فتره جلسوا سوياً و هتف.
-ماكنتش عايز اجي عشان كده، ماكنتش عايز اصحي وجعك، اللي اصلاً مش عارف اخلص نفسي منه.
استدارت ناظرة الي طفله، لتشير عليه بكل ألم.
-وجعي وجعي عايش معايا يا صقر مش بيسبني بيكبر يوم بعد يوم قصاد عيني، و انت بدل ما تشيل معايا بعدت عننا احنا الأتنين.
جفف دمعها بمحرم ورقي نظيف، ثم ابتسم لها و مد يده الي صديقه.
-خلاص يا ماما لبني من النهارده احنا التلاته مش هنفترق ابداً، انا و انتِ و جاسر هنرجع عيلة تاني، هاته يا مازن.
للمرة الثانية رفض الطفل ان يذهب اليه بل بكى و صرخ، و كأنه يريد ان يلومه على كل هذا البعد.
احتضنه مازن جيداً رابتاً على ظهره بهدوء، ليزيل رهبته.
-معلش يا صقر هو بس خايف، عشان اول مرة يشوفك.
تفهم علي صديقه و اومئ برأسه موافقه الرأي، ليلقي السلام على زوجته.
-طيب يا مازن مش مشكله، انا مش مستعجل و فاهم انه متعلق بيك.
-ازيك يا اميره، حمدلله علي سلامتك.
-الله يسلمك يا صقر، ماتزعلش خد يا سيدي شيل ساندي، و انت هتلاقيه جاي ليك لوحده.
حمل طفلتها بين يديه، تكاد لا ترى من صغرها على كفيه.
-مشاء الله دي بنتك، دي سكر و صغننه اوي يا مازن.
-عندها تلات شهور بس، يعني جاسر اكبر منها بتسع شهور
-ربنا يخلي يا رب.
ليتفاجئ بالصغير يأتي اليه بخطواته الضعيفه مقترباً مِن مَن يحملها على كفه.
-اهلاً و اخيراً رضيت عليا و جيت ليا يا جاسر باشا.
ضحك صديقه و اخذ منه طفلته ليحمله هو عوضاً عنها.
-مش قولتلك هو بيروح للي معاه ساندي.
امتن بالشكر للصغيرة ضاحكاً.
-دا احنا علي كدة لازم نشكر الأنسة ساندي
و نخليها معانا علطول يا ماما لبنى.
لامته الجدة لبنى على بُعده، مؤكدة جميلهم إليها و عدم فراقهم لها.
-انت بتقول فيها يا صقر، مازن و اميرة تقريباً مش بيسبونا لوحدنا، ربنا يبارك فيهم يا رب.
و هنا قرر مازن ان يلهيهم عن العتاب، واضفى بروحه المرحه على المكان.
الحقي يا اميرة ماما لبنى، باعتنا اول ما صقر جية و اعتبرتنا مش ولادها.
فهمت زوجته مرواغته في الحديث، لتجاريه فيما بدء.
-ماتقوليش كده يا ماما لبنى، هو انتِ بتعبرينا اغراب و لا ايه.
ابتسمت لهم السيدة الحنون، فهى تعلمهم جيداً.
-لاء ازاي دانتو ولادي ربنا يخليكو ليا.
اومئ صقر برأسه لهم، ليقترح عليها قربه من صغيره بكل الطرق.
-طب ايه رأيك بقى تطلعي معايا انتِ و جاسر الحج السنة دي، و بعد كدة تيجي تغيري جو في الواحه.
-و نعرف الاستاذ ده علي املاكه، و نخلية ياخد عليا شويه.
-اللي تشوفه يا حبيبي اهم حاجه انك تعوضه عن غياب امه، و تحببه فيك وتعرفه انك ابوه.
-انشاء الله يا ماما هايحصل.
و بعد انتهاء موسم الحج، عادوا من الاراضي المقدسة،
الي الواحة و جوها النظيف، و اقترح صقر عليها ان يمكثوا فيها لمدة طويلة، حتي ترتاح هي و ينمو طفله في جو هادئ.
و اخيراً ما عاد الي عمله، انتعشت واحة الروسي و دبت روح العمل بها مثل سابق.
و بدء يباشر ايضاً عمله في الجبالي جروب، لتعود مجموعة شركاته اقوي مما سبق في سوق المستحضرات الطبية.
كل هذا و هو يغمر طفله، الذي بدء يكبر أمام عينه ويحتويه بحبه و حنانه، و لم ينسى أيضاً ان يعلمه امور دينه.
لكنه لم ينساها، لم تغيب عن باله يوم قط ، بل كان دعائه كل ليله ان يجمعه الله بها يوم اللقاء العظيم.
إلى أن رأى هذا المشهد الذي جعله يلعن اليوم الذي استمع لصديقه فيه بأن يعود إلى العمل بل وبدء يسبه بصوتٍ جاهور وهو يرى ذلك المشهد الذي يحدث أمام عينه ويذكره بما كان يحدث معه.
كان في طريق عودته إلى المنزل، حيث انتهى دوام العمل في شركته، تفاجئ بتلك المطاردة بين سيارة شاب يصغره في العمر،
وسيارتان ممتلئتان بالرجال، فقرر أن يتدخل ويساعده في التصدي لهم، وهو يشير لسيارة الحرس الخاص به بأن يتبعوه،
حتى يعرف من يكون ذلك الشاب ولماذا يحاولون قتله.
لو كان أحداً قال له ذات يوماً انهم سيصبحوا قابيل وهابيل هذا العصر، لظل يضحك حتى ادمعت عيناه.
لكن ما حدث له اليوم كان مشهداً لابد أن يوثق للتاريخ حتى يحفره في ذاكرته مادام بقى حيا.
ترجل من الشركة واتجه نحو سيارته وبالفعل أستقلها وبدء التحرك بها، إلى أن وصل إلى منتصف الطريق الصحراوي،
وهناك ظهر من العدم سيارتان دفع رباعي، يستقل إحداهما احد حراس أمن ڨيلة أبيه السابقين
والغريب أنه أظهر له نفسه جيداً، بل وبدء في الأقتراب من سيارته أكثر من اللازم حتى اصتدم بجانبها.
اندهش صابر من تصرفه هذا وقبل ان يبدء في توبيخه تفاجئ بالصدمة الأخرى تأتيه من الخلف.
ليصرخ فيهم.
-انتو مجانين يا بني انت وهو، ايه اللي بتعمله دا.
ليتفاجئ بردهم الصريح له.
-معلش بقى يا صابر باشا بس الأوامر اللي عندنا اننا نقتلك دلوقتي.
ومن يقوى ان يأمرهم بهذا الأمر سوى اخيه الصغير،
لا وقت للأندهاش الأن لقد أتاته الأجابة واضحة و وجوابه كان صريح، وإن لم يفلت منهما لن ينجو.
ظل يناورهم ويحاول الفرار من ايديهم دون فائدة، كلما ابتعد عنهم بعد السنتيمترات، يسرعو أكثر ويصتدمو به
إلى أن أرسل الله العون له وظهرت سيارتان من العدم ويبدو ان صاحب السيارة الأولى شخصاً ذو هيبة حيث أشار بالسيارة الثانية بأطلاق النار عليهم،
وبدء هو أيضاً بأطلاق النار من سلاحه بكل شجاعه.
لكن يلا سوء حظك يا صابر يا نغاس، كانت أخر صدمة له قوية جعلت سيارته تنقلب عدة مرات متتالية، وبعدها لاذا هؤلاء الأشقياء بالهروب.
ومع انقلاب السيارة، أستقرت على الرمال أخيراً على سقفها وبدء ماتورها في الأشتعال.
وبسرعة البرق كان هذا الشجاع مترجلاً من سيارته وجرى نحوه وهو يأمر حراسه بعد أن لحقو به.
-أنتو بتتفرجوا عليا الحقوا الواد يا شوية به....
-واحنا مالنا بس يا باشا، دا اصلاً تقريباً مات.
زجهم من حوله بقوة وجرى نحوه وهو يصرخ فيهم.
-حتى لو كان مات مش لازم يولع من هنا.
-ارجع يا باشا العربية هتنفجر خلاص.
لم يستمع إليهم واقترب من السيارة ثم أنحنى عليه وبدء في جذبه من نافذتها،
وحينا رؤوه أوشك على اخراجه، بدؤو في معاونته حتى انتشلو جسد صابر بالكامل خارجها،
ولم يكتفي بذلك بل أصر ان يحمله وجرى به بعيداً ومن خلفه الرجال تفاجؤو بسقوطهم ارضاً أثر انفجار السيارة.
انحنو جميعاً على وجوههم أثر اندلاع النيران وتناثر شذايا الحديد من حولهم حتى استمعوا إلى انينه.
-مريم حامل الحقوا مراتي هيقتلوها لو وصلوا ليها.
اندهش من كلامته هذه، رفع رأسه له بحزن على ما زكره به، فهو أيضاً فقد زوجته وهي تلد له أطفاله.
-ماتخفش انا هاساعدك ومش هاسيبك، قولي بس انت مين واوصل لمراتك ازاي.
-أنا صابر النغاس، صاحب النغاس جروب للأنشاء والتعمير وساكن في.... هتلاقي مراتي هناك الحقها ارجوك.
-طيب اهدى وماتشلش هم حاجة، انا هنقلك دلوقتي على المستشفى ولما تفوق هتلاقيها جانبك انشاءالله.
مع انتهاء كلمته كان صابر مغشى عليه بالفعل فأمسك هاتفه ليجري اتصالاته وهو.
يأمر حراسه بأن يطلبو له الإسعاف.
-انت فين يا مازن
كان قد ترجل للتو من سيارته ويضع
مفتاحه في باب ڨيلته.
-خير يا رب أنا لسه واصل حالاً البيت يا صقر.
-وانت يجي من ورى أفكارك خير ابداً يا مازن، ياريتني ما سمعت كلامك ورجعت للحياة دي تاني ادي أخرة اللي يمشي وراك.
-الله في ايه ما تتكلم يا صقر.
-في إن واحد بيموت قدام عيني ومراته حامل ومعرضة للقتل دلوقتي هي كمان.
سحب مفتاحه من مكانه والتفت ليعود لسيارته مرة أخرى بوجهٍ يحتله الإندهاش.
-واحد مين اللي بيموت، ومراته ايه دي اللي هيقتلوها ما تفهمني يا صقر.
-مافيش وقت اشرحلك حاجة، هابعتلك لوكيشن روح عليه في العنوان دا واحدة اسمها مريم حامل،
خدها بسرعه وهاتهالي على مستشفى الدكتور فوأد،
خد رجالتك معاك والحقها قبل ما يقتلوها يا مازن.
اغلق الاتصال بينهم، وبسرعة البرق تحرك ليطيع أمر صديقه الذي كاد ان يجزم بأن طريقه دائماً معمراً بالمشاكل.
للمتابعة اضغط هنا