رواية بيت النغاس الجزء الثاني الفصل الثاني

 

بيت النغاس الجزء الثاني

الفصل الثاني

ظلت ملازمة هذا اللوح الزجاجي، لا تحيد نظرها عنه تراقب كل شئ من حوله حتى أنفاسه، 


إلى أن وجدت يد تربت على كتفها فالتفتت يمينا. 


-يلا يا مريم الوقت اتأخر يا بنتي. 


-لاء يا عمي أنا مش هاسيب صابر، انا جيت معاه لحد هنا ومش هاخرج واسيبه لوحده. 


-يا حبيبتي هو نايم مش حاسس بيكي ولا بأي حاجة حاوليه، صدقيني لو وجودك هنا في مصلحة ليه كنت سيبتك وبيت معاكي كمان لكن انتِ كدة بتتعبي نفسك على الفاضي، وبكره لما هو يفوق مش هيلقيكي جانبه. 


وقف فرج أيضاً بجانبها ولأول مرة تشعر بأنه لديه قلب ينبض. 


-اسمعي كلام عمك يا مريم، روحي معاه يا بنتي، وانا هفضل هنا لحد ما ترجعي بكره

وإنشاءالله يكون فاق وقام منها. 


تنهدت بحزن أبتعدت عنهم وعاودت النظر اليه، هاتفة بلغة أمرة. 


-قولتلكم مش هامشي إنشالله أفضل واقفة على رجلي لحد ما يفوق، ساعتها بس أقدر أرتاح. 


عاد حسن أليهم وربت على كتف أبيه ثم أسنده ليجلس على مقعد جانبي وهو يناديها. 


-طب على الأقل تعالي أقعدي يا مريم، أنتِ مش بس بتتعبي نفسك على الفاضي، لأ دا انتِ تاعبة كل اللي حاوليكي. 


جاوبته بهجوم. 


-وعلى إيه كل دا التعبان يقدر يمشي.


وهنا وجد حسن الحجة التي ستجعلة يرحل متصنعاً الأنزعاج منها. 


-أنتِ بأي حق بتكلمينا كدة، اسمعي مش معنى إن صابر اتجوزك تفتكري نفسك بقيتي حاجة وتنسي مقامك، فوقي لنفسك يا مريم وأعرفي انك واقفة قصاد فرج النغاس وأبنه. 


وكأنها أصبحت لبؤة متوحشة تزأر في وجووههم جميعاً. 


-قصدك تقول فرج النغاس الظالم القاتل وأبنه المستهتر، أيوة يا فرج بيه إنت اللي قتلت صابر، أوعو تفتكرو إن الرصاصة اللي اخدها في صدره دي هي السبب في اللي هو فيه، 


لاء أحب أقولكم بقى انكم قتلتوه من زمان أوي قتلتوه بظلمكم وأهملكم ليه،


صابر ماعرفش معنى الحياة غير معايا أنا، وساعة ما مديتوا ايدكم ليه حاول يهرب من الصراع اللي جواه وفضل ياخد الرصاصة بدل أبوه عشان يهرب هو من ألمه ويرتاح. 


صرخ حسن في وجهها بغضب. 


-أنتِ مين اداكي الحق عشان تدخلي في اللي بينا وبين اخويا، أنتِ مالكيش أي صفة عشان تتكلمي بالطريقة دي معانا، 


ودلوقتي بقى يا ريت تمشي ولما يبقى يفوق من رقدته هنبعتلك تيجي عشان تريحيه يا ست مريم. 


-حسسسن. 


هتف بها والده بغضب، حتى يخرسه قبل أن يتمادى في غلطه. 


وقف عمها عمران أمامها يناظرهم بإشمئزاز. 


-متشكرين يا بن الأصول، أنا لولا الشدة اللي احنا فيها ورقدة الراجل الجدع اللي حط ايده في أيدي كنت عرفتك مقامك كويس، بس نقول ايه بقى إن خرج العيب... 


أومئ النغاس الكبير برأسه له، وبكل حصرة قال. 


-كتر خيرك يا حج عمران، وعلى فكرة أنا مش بلومك على اللي قولتيه يا مريم، ولا زعلان منك بالعكس، دانا حاسس بالذنب فعلاً ندمان على كل لحظة جيت على أبني فيها وبدعي ربنا أنه يفوق عشان يسامحني وأقوله حقك عليا يا ابني. 


-كفاية زل بقى يا بابا. 


-أخرس يا حسن واعتذر لمرات اخوك حالاً. 


تفاجئ الجميع برد فرج القوي على ولده، نفض حسن يده وأرتد للخلف راحلاً عنهم. 


-لاااا دانت يظهر حادثة صابر دي عملت في عقلك حاجة،


انا ماشي وهاسيبلك الحرس بالعربية لو حبيت ترجع على البيت، ولو عوزتني او لو حاجة جادت اتصل بيا سلام يا بابا. 


رحل حسن تحت نظرات مريم الساخرة وإذا بها تهتف.


-إهرب إهرب هي عادتك ولا هتشتريها، بس للأسف اللي كل مرة بيلم من وراك مرمي بين ايدين ربنا لا حول له ولاقوة. 


وبعد مرور عدة ساعات قضوها جميعاً في استراحة المشفى بعد أن تم طردهم من غرفة العناية.


عاد ضوء النهار يشق السماء رويداً رويدا ليعلن لهم عن بدء اليوم الجديد.


وفي هذا الوقت كان الجو هادئاً يبدو أن الجميع غفو من كثرة الإرهاق، إلا هي تسللت بحذر قلق وصعدت مرة أخرى اليه، 


ولم تكتفي بذلك فقط بل انها جلبت غطاء الرأس وتلك الجوارب والماسك المعقم وفتحت باب الغرفة متجهه نحوه، اقتربت منه و جلست على المقعد المجاور له، 


وإذا بها تمد يدها وتتمسك براحته ثم قبلتها قبلة رقيقة وأراحت جبهتها عليها قليلاً وهمست له. 


-قوم بقى يا صابر عشان خاطري ماتخضينيش عليك، بالله عليك ماتحرمني منك أنا مش هستحمل لو جرالك حاجة صدقني مش هاعيش في الدنيا لحظة واحدة من غيرك. 


-أنا جانبك. 


أنتبهت لتلك الكلمة المتقطعة ذات النبرة الهادئة رفعت جبينها عن قبضته، نظرت إلى عينه وجدتها مغمضة فهمست له. 


-إنت اتكلمت يا صابر. 


لم يجيب عليها او حتى يفتح لها أهدابه لكي تملئ روحها المشتاقة لرؤية مقلتيه، فقررت أن تشد على يده حتى تطمئن عليه. 


-رد عليا يا صابر إنت اتكلمت، طب بص بلاش تتكلم عشان ماتتعبش اديني بس أي أشارة وانا هفهم. 


أيضاً لم تلقى منه رد، لكنها شعرت بسبابته وهو يضغط بها على يدها ضغطاً خفيفاً،


رمقته بإنتباه وهي تحثه على الأكثر بسعادة. 


-حرك صباعك تاني يا صابر وحياتي عندك أي أشارة كمان. 


فعل لها ما طلبت فانحنت على يده وقبلتها ثم جرت نحو الخارج لتنبه الأطباء، توقفت في الرواق أمام هذا الحائل الخشبي، الذي تنعس خلفه الممرضة المسئولة عن العناية، فانبهتها بصراخها. 


-دكتور هاتيلي دكتور، أنتي نايمة بقولك فوقي عايزين دكتور في العناية حالاً. 


-ايه دا أنتِ مين وايه اللي دخلك هنا. 


-هو انتِ لسة هتسألي، بقولك صابر فاق، نادي كل الدكاترة اللي هنا بسرعة. 


-حاضر حاضر بس ابوس ايدك اخرجي من هنا احسن لو حد شافك فيها رفدي. 


وفي غضون لحظات، كان يلتف حوله كنسولتو 

من الاطباء، أما في الخارج فقد أحتل المقدمة والده الذي وقف هو أمام هذا اللوح الزجاجي بجانبه وقف الحج عمران. 


حاول فتح جفنيه بجهد عارم وكأنه يحمل فوقهم ثقلٍ عظيم، لكنه جاهد بعزم ليفتحهما وفي أول الأمر أصبحت الرؤية بالنسبة له مشوشة، 


إلى أن بدأت تتضح له الأوجه شيئاً فشئ، خرجت الكلمات من ثغره أيضاً هامسة متقطعة وأول ما نطق كان إسمها. 


-مر.. يم في.. ن مر يم. 


ربت الطبيب على يده وأشار له بأن يهدأ. 


-كلهم موجودين بره مش عايزك تقلق يا صابر نطمن بس عليك وهندخلهم ليك واحد واحد. 


-مر يم كانت معايا ليه سابت ايدي خليها تيجي. 


نظر الطبيب الممرضة مستفهماً. 


-كان في حد معاه هنا يا أنسة. 


-ها لاء طبعاً يا دكتور دا اكيد بيخترف من أثر البنج والأفاقة وكده يعني.


-أه طب تمام يا صابر على العموم لو قصدك على خطيتك او المدام بتاعتك هي من امبارح هنا وماسمعتش كلام حد وروحت ترتاح، 


يلا شد حيلك انت بقى عشان تقوم ليها بسرعة نطمن بقى عليك. 


بدء هو يبحث عنها في أوجه كل الحاضرين، وترك الطبيب يفعل ما يريد، حتى اتضحت له الرؤية ورمقت عينه هذا اللوح الزجاجي ومن يقفو خلفه 


والده يقف متلهفاً لرؤيته، عمها أيضاً كان يقف مبتسماً ويهمم ببعض الكلمات غير المفهومة، صديقه مراد الذي ظهرت الفرحة على ملامحه


كل هؤلاء يقفون يراقبوه بشدة والسعادة تغمرهم، لكن هو لا يهمه اي أحد منهم، هو يريدها هي لا غيرها، لماذا لا يراها بينهم لا يعقل أن تتركه في محنته وترحل الأن. 


ما كان منه الا أن يأخذ قسطاً من أسمه ويصبر حتى يسترد صحته قليلاً ثم يسأل عنها بعد ذلك. 


مازلت جالسة على هذا المقعد أمامها كوب صغيراً من القهوة موضوعاً علي تلك الطاولة التي تستند عليها بإرهاق واضح اثره

علي وجهها، و التفكير أيضاً يصُدع رأسها بشدة. 


-مريم انتي قاعدة هنا وسيبانا، صابر فاق يا حبيبتي والدكاترة بيحضروه عشان ينقلوه لأوضة عادية بعد ما أطمنوا عليه. 


أومئت برأسها لعمها وجذبت يده ليجلس بجوارها.


-تعالى أقعد يا عمي.


حالة من التعجب أحتلت وجه الحج عمران، جلس بجانبها ليحاول أن يفهم ماذا حل بها.


-اقعد فين! قومي انتِ معايا عشان تطمني على جوزك انتي لازم تكوني جانبه في الظرف دا يا بنتي.


بكل هدوء و وجه بارد أجابته.


-ما انا جانبه ومن ساعة اللي حصل و انا واقفة على رجلي براقب كل نفس بيدخل او بيخرج منه أهو يا عمي، 


-عملتي دا كله وهو غايب عن الوعي ولما بدء يفوق عايزة تبعدي، دا أبوه اللي طول عمرهم في مشاكل مع بعض هايتجنن فوق ويدخل ليه


عايزة أنتِ تبعدي عنه دلوقتي ليه وتدي ابوه الفرصة دي.


يبدو أن ظنها كان في محله، عمها يفكر بنفس طريقتهم، طريقة المصلحة والطمع، وإن كان مازل لا يعلم بأن حبيبها أصبح يمتلك ثروة ضخمة فما بالكم لو علم، رمقته بنظرة مطولة ثم أجابت حديثه بتأفف. 


-ما هو عشان كده يا عمي أنا مش حابة أظهر في الصورة دلوقتي، صابر قبل ما ينضرب بالنار عرف حقيقة أبوه كامله،


عرف انه قتل امه غدر، واتأكد من دا ومع ذلك فضل انه ياخد الرصاصة بداله ويفديه بروحه


برغم كل الظلم اللي شافه على ايده طول السنين اللي فاتت لكن برضو ماستحملش انه يشوفه بيتأذي، 


تفتكر بعد مايشوف حنانه وحبه لأول مرة في حياته لو أبوه قاله طلق مريم وابعد عنها هيتمسك بيا ويضيع الفرصه دي من ايده. 


ضاعت ملامح الراحة من على وجه عمها وأحتلت مكانها معالم الدهشة والزهول. 


-دا يبقى ن.. دل قوي لو عمل كده، بس أرجع وأقولك حتى لو فكر بالطريقة دي بردو ماينفعش انتِ تبعدي دلوقتي، هو بيحبك ومتعلق بيكِ يا بت خليكي ناصحة قربي منه وحاسسيه انك خايفة عليه عشان يشلهالك جميلة. 


ضمت حاجبيها بغضب وبكل شجاعة قالتها في وجهه. 


-للدرجة دي تبيع لحمك ، دا ايه الرخص ده يا عمي، بقولك ايه أنا مش متحركة من هنا عايز انت تروح ليه اتفضل واقعد جانبه زي ما انت عايز لكن انا مش متحركة من هنا. 


زُهل الحج عمران من ردها الصارم المفاجئ بالنسبة له.


-ماشي يا بنت اخويا بس لو مكناش قاعدين وسط الناس انتِ عارفة انا ردي عليكي كان هيبقى ازاي، انا هاطمن على الرجل الجدع اللي حط ايده في أيدي، 


وبعدها هامشي وانتِ حره بقى تتصرفي زي ما أنتِ عايزة، ما هو يعتبر جوزك عن اذنك يا بنت اخويا. 


نقل صابر في غرفة عادية بعد أن تم فحصه من الاطباء واطمئنوا عليه،


صحيح انه فرح بوجود والده معه لكنه مازل يريدها بجانبه، ففضل ان يسأل صديقه عنها بعد أن رحل عمها وترجل والده معه ليودعه.


-مريم فين يا مراد؟


-موجودة يا صابر اطمن عليها هي قاعدة برة صدقني.


حديثه جعل صابر ينفعل بدخله لذلك هتف بتألم.


-برة برة بته... بب ايه برة سيباني وانا كدة، انا مش هأمن عليها غير هنا معايا، ولا يكون ابويا هو اللي منعها وقالها حاجة زعلتها.


وصل والده على كلمته ولكنه استاء من ظن ابنه السئ فيه.


-أنا يا بني بالعكس والله طب دا أنا مش قادر اوصف لك انا نظرتي ليها اتغيرت ازاي من ساعة ما جينا هنا، وعرفت هي قد ايه بتحبك وخايفة عليك.


-أومال هي فين مش عايزة تدخلي ليه؟


اتجه مراد سريعاً نحو الخارج ليأتي له بها قبل أن يأذي نفسه.


-إهدى يا صابر، أنا هاروح أجبها ليك حالاً.


وصل إلى استراحة المشفى في وقت ايجازي بدء البحث عنها بعينه بين الجالسين إلى أن وجدها جالسة وحدها وملامح الأرق تحتل وجهها.


-مريم.


-أهلاً يا باشمهندس اتفضل أقعد.


-أقعد فين اتفضلي انتِ قومي معايا.


-أقوم أروح فين يا مراد.


-تروحي لجوزك اللي انتِ مكدرة نفسك طول الليل واقفة جانبه وأول ما حسيتي انه فاق قلبتي المستشفى عشانه، واللي من ساعة ما فتح عيونه وهو مش مبطل سؤال عنك. 


مازلت محتفظة بهدوئها متجملة بأبتسامتها. 


-دلوقتي يبطل يسأل عني لما ابوه يغمره شوية بحنانه.


بضمة حاجبيه جلس مراد متعجباً من حديثها. 


-في ايه يا مريم هو انتِ بتتكلمي عن طفل صغير، دا جوزك وفي شدة و محتاجلك جانبه، سيبك من اي حاجة بتفكري فيها دلوقتي وخليكي جانبه اثبتي ليه أنه اختار صح يا مريم. 


أخيراً تخلت عن جمودها وتركت العنان لعبراتها التي أسترسلت على وجنتيها في هدوء. 


-خايفة من الجاي اوي يا مراد. 


-الجاي دا لسه في علم الغيب احنا في دلوقتي تعالي معايا اطلعي لصابر وخليكي جانبه 


وصدقيني كل اللي انتي بتفكري فيه دا مش هيحصل يلا يا مريم اركني عقلك على جنب دلوقتي وخدي القرار من قلبك. 


جففت دمعاتها بيديها و تأهبت للصعود اليه

وهي تحاول أن تتماسك قليلاً.


-حاضر يا مراد بس يا رب هو بقى مايخزلنيش.


ها هي تقف أمام بابه منتظرة لحظة لقائه بكل تلهف، قلبها يكاد يقفز من بين ضلوعه فرحاً بلحظة اللقى وعقلها يصرخ خوفاً من ردة فعله مع أبيه. 


فتح مراد الباب ودلف للداخل وهو يشير أليها. 


-ادي مريم جاتلك اهيه يا سيدي اظن كده تقدر تهدى بقى. 


تجمدت نظرة عينه عليها حين ولجت أليه، لكنها أحنت رأسها ولم ترفعها لتناظره، وهنا أشار والده لمراد بالخروج ولحق به هو

الاخر حتى يتركوهم يتحدثون وحدهم.


مد لها يده حتى تقترب منه، لكنها فجائته بتيبس قدميها في مكانهم.


-مش عايزة تقربي مني يا مريم، ايه مش مبسوطة إني رجعت ليكي.


هزت رأسها يميناً ويساراً ثم خرج صوتها متحشرجاً متقطعاً من شدة شهقاتها.


-ماتقولش كده أنا كنت هموت من القلق عليك، بس كمان مش قادرة اسامحك على اللي عملته في نفسك وفيا دا.


أرتفع جانب شفاه العلويه بعلامة السخرية. 


-وأنا عملت فيكي ايه بقى وانا مضروب بالنار.


-عرضت نفسك للموت من غير حتى ما تفتكر إن في واحدة مسؤلة منك كانت هتموت وراك لو كان جرالك حاجة. 


-بعد الشر عليكي يا قلبي تعالي قربي مني يا مريم. 

للمتابعة اضغط هنا


تعليقات