بيت النغاس الجزء الثاني الفصل العشرون

 

بيت النغاس الجزء الثاني

الفصل العشرون

زفر أنفاسه المختنقة بضيق تام، وهو يرمق مراد الذي إبتعد قليلاً عنه حتى يتسنى له الرد على زوجته.


-ادام بتعيطي وتصرخي كده يا مريم تبقي اكيد عرفتي بالحصل.


رفع يده وأشار له بأن يعطيه الهاتف.


-بتعيط ليه هات الموبايل يا مراد.


اعطاه له وتفاجأ بصراخها الذي مزق قلبه بفزع عليها و على حبها الأعمى له.


-ودا سؤال تسأله ليا، بقالي تلات ساعات مش عارفة حاجة عن جوزي وفي الاخر اعرف الخبر دا بالصدفة وهو مش لقياه خالص والنبي طمني عليه.


-أنا كويس يا مريم.


هكذا أتاها رده ، هادئاً بارداً مغلف بحزن.


وكأن البركان الثائر بداخلها قد خمد بالكامل وأجبر قواها على الصمود تخور أيضاً معه لتلقي بجسدها على الدرج من خلفها وتكمل.


-أنا هاتجنن واطمن عليك، قولي إنت فين وأنا هاجيلك. 


-لااااء


كانت قاطعة نافية كل الأفكار التي تدور برأسها قبل حتى أن تكمل له لتستمع إلى أمره. 


-أياكي تتحركي من عندك، عمك جايلك دلوقتي وهياخدك إنتِ وليلي وديشا على البيت عند جدتك والحرس هيكونو معاكم اسمعي الكلام وروحي معاه. 


-يعني إنت كلمت عمي وعرفته كل حاجة  و كمان قولتله يجي ياخدنا طب أنا مش هاسمع كلامك أنا لازم اشوفك وأطمن عليك. 


-يووووه أنا مش ناقص وفيا اللي مكفيني، أسمعي الكلام بقى وماتتصليش تاني لحد ما أجيلك. 


أغلق الهاتف معاها دون أن يستمع إلى ردها لتنظر هي إلى ليلي الواقفة أمامها تبكي بصمت. 


-قالك إيه الخبر صحيح.


أخرجت زفرة عالية من صدرها وأحنت رأسها بحزن.


-أيوة صحيح.


جلست بجانبها تكاد تجن من ذلك الهاجس الملح بداخلها.


-طب هو فين دلوقتي، وحسن فين هو معاه ولا حصله ايه هو أكيد كويس صح يا مريم مش صابر قالك إنه كويس.


كل هذه الأسئلة كانت تلقيها علي أذنيها بلهفة غريبة جعلت الأخرى ترفع رأسها وترمقها بتعجب.


- مش ممكن بعد كل اللي عمله فيكي دا.


إنتفضت ليلي سريعاً من جانبها، وهي تحاول ان تواري عينيها منها هاتفة ببكاء.


-هو اي دا اللي مش ممكن، هو عيب يعني إني اسأل عن إبن خالتي واطمن عليه هو أخوه.


-أنا ماقولتش كده.


قالت مريم جملتها وهي تنهض وتقترب منها، ثم ربتت على معصمها عدة مرات.


-مش عيب ابداً بس صدقيني أنا ماعرفش حاجة، صابر قالي أنه كلم عمي عشان يجي ياخدنا دلوقتي وماقلش حاجة تانية.


هزت ليلي رأسها بالنفي رافضة هذا الامر.


-لاء يا مريم أنا مش هاروح معاكم، أنا هاروح اطمن عليهم.


-ومين قالك إني مش هاعمل كده، بصي احنا هنطلع نلبس دلوقتي ولما عمي يجي هياخد ديشا بس معاه واحنا نخلي الحرس يودونا لصابر.


وهذا ما حدث بالفعل حضر العم عمران اليهم وجلس مع صغيره بالأسفل ينتظر هبوطهم بوجه حزين، الي ان ظهرو الأثنتان أمامه بوجه متهكم متلفحين بملابس سوداء تليق بالحالة التي عمت عليهم. 


-كويس إنكم جاهزين يا مريم يلا يا بينا. 


-بينا على فين يا عمي أنا مش هاروح معاك. 


قضب العم عمران ما بين حاجبيه مستنكراً حديثها هذا.


-استغفر الله العظيم هو دا وقت عند بس، هو انتِ لسه ماعرفتيش باللي حصل ولا ايه. 


مع ذكره لما حدث أدمعت عيناها مرة أخرى و... 


-عرفت يا عمي وعشان كده بقولك اني مش هاجي معاك، أنا لازام اكون جانبه هو دلوقتي.


تنهد بصبر حزين على حالهم رابتاً على يدها


-اللي بتقوليه دا نعم الرأي يا حبيبتي، بس جوزك مش عايز كدة، دا هو اللي اتصل بيا وعرفني كل حاجة مخصوص عشان اجي اخدكم عندي، واكيد في حاجة بيفكر فيها عشان يطلب الطلب دا.


كل حديثه هذا ذهب هباء وكأنه لم يقل شيئاً، بل أزدادت هي إصرار عن الأول وأجابته وهي تشير للأخرى بأن تتبعها.


-يفكر ويدبر زي ما هو عايز، وأنا برضو هعمل اللي انا عايزاه.


يعلمها جيداً عنيدة نعم، قوية الشخصية جداً، لكنها أيضاً رقيقة المشاعر، يخشى على قلبها الصغير من تحمل رؤية هذا المنظر الذي تقشعر له الأبدان.


بزفرة حزن أغلق الهاتف ومد يده ليعطيه لصديقه الذي تعجب من حاله.


-بتبعدها عنك ليه وانت في أمس الحاجة ليها.


-مش هتستحمل تشوف المنظر دا أنا عارفها كويس، وكمان مش عايز البيه يحتك بيها او يتخانق معايا قدامها، مش هتسكت يا مراد انا عارف. 


نظر مراد إلى حسن الذي كان يقف بعيداً عنهم واجماً الوجه باكي العينين والغضب يسيطر عليه بالكامل. 


-حسن في أمس الحاجة إليك دلوقتي يا صابر، صحيح هو مبين أنه بيعديك، لكن لو روحتله هيترمي في حضنك ويبكي زي الاطفال. 


اطرق صابر على فخذيه براحتي يديه وهب واقفاً معطي الجميع ظهره وأبت الدموع ان تصمد داخل مقلتيه أكثر من ذلك. 


-دا بيتهيألك حسن بقى أبعد ما يكون ليا خلاص، ابني اللي انا ربيته على ايدي بقى ألد أعدائي والأذية مش هتيجي غير منه هو. 


-موت ابوك وأمه هيجمعكم تاني. 


-موت أبويا هو اللي فرقنا وزرع العداوة دي بينا. 


-في ايدك إنك تنهيها وتاخدو تحت جناحك. 


صمت ولم يتحدث وشرع في التفكير في أمر ما، لكنه إنتفض حين وجد يدٍ رقيقة تربط على كتفه من الخلف. 


-طنط نور! 


فتحت له ذراعيها ليلقي بجسده بينهم بأنين، وبحنينها المعهود اغلقت عليه بدئت تربت على ظهره بحزن. 


-عرفتي ازاي ولحقتي تيجي إزاي. 


-أنا هنا من الصبح يا حبيبي، كنت ناوية اعملها ليك إنت وليلي مفاجئة لكن اللي حصا دا فاجئني اكتر. 


-أبويا مات وأخويا بيتهمني بقتله شوفتي يا خالتي. 


-الله يرحمه فرج ظلم نفسه وظلمك طول حياته، ولما حاول يصلح اللي عمله برضو ظلمك بغبائه، بس مسير ربك ينصف المظلوم ويظهر الحق يا صابر. 


أبتعد عنها قليلاً ونظر في عينيها بعدم فهم، ليجد من حضرت أيضاً واقتربت منه بلهفة ممسكة بذراعه. 


-صابر. 


وجهها شاحب للغاية دامعة العينين ولهفة خوفها عليه يلاحظها الأعمى، ضمها إلى صدره واحتضنها جيداً محاولاً تهدئتها. 


-برضو مسمعتيش الكلام، إيه اللي جابك بس يا مريم. 


-عايزني أسيبك لوحدك ازاي في موقف زي ده، انت كويس صح يا صابر. 


بالله كيف يطمئنها ويخبرها بأنه بخير ومن داخله يشعر وكأنه أصبح كبركان يريد ان ينفجر من شدة إنصهاره. 


-أكدب عليكي لو قولتلك إه يا قلبي. 


وقف ليلي تربت على يده هي الأخرى بعد أن احتضنتها والدتها وتبادلوا السلام، 


رفع يده عن زوجته وضمها في مقابلتها أمام صدره ليحتضنهما سوياً، 


لكنها رفع وجهها له ثم نظرت إلي حسن بعين دامعة وعاودت النظر إليه مرة أخرى. 


كلن حسن في ذلك الوقت ينظر إلى أخيه نظرة حقد وغضب، 


الجميع يلتف من حوله، اخذ منه كل شئ، 


الجاه والمال والعائلة أيضاً، حتى حبيبته أخذها منه، وأصبح هو بلا شئ، نكرة منبوز من الجميع وهذا ما كان يزيد من فكرة التخلص منه وللأبد. 


ظهر العم عمران أيضاً بين الحاضرين ووقف يشد من أذر صابر ويواسيه في مصيبته، بينما


أبتعدت ليلي عن الجميع ووقفت تراقب حسن الذي كان يقف بعيداً بمفرده مع الحرس الخاص بالقصر، 


بحركة خفيفة تحركت  نحوه حتى تطمئن عليه وتقف بجواره، وقفت أمامه وبتلقائية امسكت ذراعه وهمست. 


-حسن


رمقها بنظرة طويلة غاضبة ومشاعر متناقضة تضرب بداخله، 


هو بأمس الحاجة أليها ، وهو أيضاً من يرفضها


حبيبته تريد قربه، لكن للأسف عدوه يقف بينهم وهو من يحركها وهذا ما صوره له شيطانه. 


بكل قوته نفض يدها من حول ذراعه وصرخ فيها. 


-جايلي ليه يا ليلي، إيه لعبة جديدة دي منك، لو مفكرة إني لسه في حيلتي حاجة وهتضحكي عليا بكلامك الحلو عشان تاخديها تبقي غلطانة، 


أنا مبقاش عندي أي شئ لا مال ولا شغل ولا حتى عيلة، روحي لصابر باشا هو اللي بقى معاه كل حاجة دلوقتي. 


وإذا به يدفعها دفعة قوية، ليتلاقها صابر الذي أستمع إلى صراخه عليها كما أستمع الجميع 


ربت على ظهرها عدة مرات أمام عينه الغائرة ، ثم أعطاها لوالدتها الغاضبة أيضاً، وبحركة سريعة من يده أمسكه من تلابيبه هامساً له بلهجة محزرة. 


-لولا الموقف اللي احنا فيه أنا كنت أدبتك وعرفتك مقامك كويس يا حيوان. 


لينفض حسن يده من عليه ويناذره بنفس الغضب. 


-وحياة الغالين اللي راحوا وسابوني لوحدي في الدنيا دي لتحصلهم يا صابر، وهخلي كل اللي حواليك دول يتحصرو عليك ومش لوحدك إنت وأي حد قريب منك. 


-دانا كنت أكلت كبدك ني لو بس حاولت إنك تقرب منه. 


كان هذا صراخ مريم التي حاولت أن تجري على زوجها قاصدة الدفاع عنه لكن يد عمها الممسكة بذراعيها منعتها. 


ليتدخل اخيراً محاولاً فض الشجار بين هؤلاء الأخوة الأعداء. 


-الله ماتصلوا على النبي(عليه افضل الصلاة والسلام) يا ولاد إشحال لو ماكنتوش أخوات كنتو عملتوا ايه في بعض، 


لو مش هايبين الموقف اللي احنا فيه، أحترموا حتي حرمة اللي ماتوا ولسه مش عارفين هنلاقي ليهم جثامين ندفنها ولا لاء. 


وهنا تحدث أحد الضباط القادم من داخل القصر المحترق بأكمله. 


-هما تقريباً كده ليهم يا حاج وفي الحقيقة بردو ودي حاجة ماحبش حد يتعرض ليها، لكن انتو الاتنين لازم تهدو شوية وتحاولو تتمالكو أعصابكم عشان تدخلو معايا جوه القصر وتتعرفو علي الجثث اللي موجوده فيه. 


إلتفت حسن إليه تاركاً الشجار مع أخيه جانباً ثم تسائل. 


-معني كلامك دا إننا نقدر نتعرف عليهم. 


-في الحقيقة لاء، بس دكاترة الطب الشرعي هما اللي طلبوا كده. 


أنهى الضابط حديثه وأومأ صابر برأسه له وحاول أن يتقدم معه لكن عنيدته تصدت له تومأ له بالرفض. 


-بلاش يا صابر ماتدخلش عشان خاطري. 


رفع إبهاميه مقربهم من وجنتيها محاولاً تجفيف عبراتها المسترسلة، ثم ربت علي كتفها عدة مرات وتركها وذهب. 


بخطوات ثقيلة دلف الأخوين، إلى داخل القصر المهيب وبداخل كل منهم كم هائل من الحزن والألم ومداهمة ذكرياتهم فيه، لدرجة أنه لمعت عين صابر بقطوات الدموع المتجمعة داخلهما لكنه صمد وحاول التماسك 


إلى أن أستمع إلي شهقات أخيه الصغير الذي لم يقوى على الصمود، وقبل أن يصعد الدرج توقف ورفع رأسه اليهم وهتف بصراخ.


-لاء مش هقدر أشوفهم كده، إذا كان كل حاجة في البيت أتفحمت والنار كلتها هما هيبقى فاضل فيهم إيه.


ثم تراجع للخلف هارباً نحو باب الخروج.


-وإنت يا صابر.


هتف بها ضابط المباحث ليفيقه من شروده ويجبره على النظر له.


-هتكمل وتطلع معايا ولا هتخاف زي أخوك.


تنهد بقلة حيلة فلا يمكنه الهروب مثلما فعل أخوه ولا يوجد لديه أي خيار أخر.


صعد معه والخوف من المجهول حليفه

وبرغم كل ما هو محترق أمامه، برغم كل ما قساه في حياته، كل الظلم والألام التي زاقها داخل هذا البيت إلا أنه


كان بداخله يصراخ وينتفض ويتمنى ألا يكون ذلك الجثمان الذي سيدلف ويراه لأبيه.


نعم كان أب قاسي وظالم، لكنه لم يريد ان يرد مظلمته في دنياه، لقد ظن انه ينتقم لنفسه وأحتسبه إلي يوم أن ترد المظالم، لا أن يرى عذابه في نار الدنيا قبل الأخرة.


وهذا أصعب شئ تراه العين بل إنها كادت ان تجحظ من بين جفونه حين تخبط بين الظلام المفحم والمشبع برائحة الحريق، 


دلف وقلبه يعتصر من الأنقباض الذي راوضه ليرى أمامه عدداً من الرجال يرتدون الكمامات القفازات في أيديهم ويلتفون حول شئ ملقى أرضاً. 


وما كان هذا الشئ سوى جثتان أكلتهم النيران وشوهت معالمهم نهائياً، إنشوى لحمهم لدرجة ان من يراهم لا يقوى على تمييز جثة الرجل من المرأة. 


منظر تقشعر له الأبدان وتلتاع له القلوب فكيف به هو أن يصمد أكثر من ذلك. 


جري للخارج وهو يصرخ حتى أن صرخاته وصلت جميع من يقفون بالأسفل. 


لا يعرف كيف تخطى كل شئ بسرعة البرق هكذا كل ما يعرفه الأن أنه حرفياً مرعوب مما رأى


إنتبهو جميعاً إلى صراخه وجرو نحو باب القصر وكان أول من أستقبله داخل ذراعيه هو العم عمران الذي ظل يربت على ظهره محاولاً تهدئته دون فائدة. 


-لاااااااااء أبويااااااااا النار أكلت لحمه لاااااااا


-وحد الله يا صابر ماتعملش في نفسك كده يا بني. 


-النار كلتهم النار كلتهم. 


-لا إله إلا الله ليه كده بس يا فرج ماكنش في طريقة تانية تنهي الحكاية بيها غير دي. 


إنتبه الضابط إلى حديثه الذي يعني أنه ربما يعلم شئ وأقترب منهم موجهاً الحديث له. 


-معنى كلامك دا إنك تعرف حاجة عن الحادثة يا حاج. 


-وانا هعرف منين بس يا بني إذا كان الخبر جالي من إبنه بعد الحادثة. 


ارتاب الضابط في أمره ولكنه تريث للأمر وأومأ برأسه عدة مرات. 


-طب يا ريت تتمالك نفسك وتهدى كدة يا صابر وتقولنا قدرت تتعرف علي حد فيهم ولا لاء. 


رفع وجهه الباكي من على صدر عم زوجته، وقال. 


-عايزني اتعرف عليهم ازاي دول متفحمين ومافيش ليهم اي معالم. 


نفض الضابط ذراعيه ورفع حاجبه الأيمن هامساَ لنفسه وهو يعود للداخل مرة أخرى. 


-إممممم شكلها قضية معقدة. 



وفي غضون لحظات تم نقل الجثامين المغلفين بأكياس بلاستيكية سوداء إلى عربات الإسعاف 


وبات الظلام الحالك ورائحة الأدخنة تعم المكان أغلقت أبواب القصر بأمر من الشرطة

وبدء الجميع يرحل عن المكان إلا حسن


فليس له اي مكان يذهب إليه ولا يوجد له بيت غير هذا


ليجد يد مراد تربت علي كتفه حتي ينتبه لوجوده بجانبه. 


-خد يا حسن دي مفاتيح شقتك أخوك سابهالك معايا. 


لوهلة كان سيأخذه الغرور ويرفض لكن فكر

 قليلاً، إذا رفض أين سيذهب.


جذب من يده المفتاح واستقل سيارته وتحرك بها دون ان يوجه له أي كلمه.


نظر مراد إلى صابر بحزن، ليلقي صابر نظرة اخيرة على البيت الذي أصبح موحشاً بمعنى الكلمة


بيت لم يلقى فيه سوي الكره والحقد والظلم، واصبحت هيئته الأن الوحشة والرعب والسواد


نبهته مريم اخيراً وجذبه مراد هو الأخر ليستقلوا سيارته ويذهبون


و أسدل الستار أخيراً عن بيت النغاس

للمتابعة اضغط هنا 


تعليقات