الفصل الثانى عشر
كان الحزن مخيم على وجهها، ظلت صامتة منحنية برأسها وعيناها دامعة.
-ممكن افهم انتِ بتعيطي ليه دلوقتي، أظن أنا اخدت لك حقك منه بالكامل، دانا ماخليتش فيه حته سليمة عشان خاطرك، وكمان انتِ كويسة ولحقتك الحمدلله.
-أه الحمدلله.
-طب ايه هتفضلي زعلانة كدة كتير، انا مأخدتش على إن أشوف دموعك دي.
-أنا مش زعلانة يا صابر، أنا خايفة أوي.
لكم لازمه هذا الشعور، الخوف وعدم الأمان هم بالنسبة له عدوه اللدود، وعليه الأن أن يزيل هذا الشعور عنها،
ترك مقعده وجلس أمامها، ضم راحتها بين قبضتيه محاولاً بث الطمئنينة في قلبها.
-خايفة من ايه بس، قولتلك انتِ معايا هنا في أمان ومافيش حد يجرؤ يتعرض ليكي تاني.
-حسن مش هيسبني في حالي.
-ولا يقدر يعملك حاجة، ولازم تفهمي إن حسن أجبن من انه يعرض نفسه لموقف زي ده تاني.
-بس هو قالهالي يا صابر، قالي انتِ أخدتي مني كل حاجة وانا مش هسيبك.
-بصي يا ليلي حسن أخويا الصغير وانا عارفه أكتر من نفسي، صدقيني هو كل اللي هيشغله الفترة الجاية ازاي يرجع فلوسه تاني بعد ما أخدت كل حاجة منه،
أنتِ دلوقتي بقيتي بالنسبة ليه حلم صعب يتحقق فامش هيتمسك بيه، لاء دا هيدور على غيره وغيره دا مش هيقدر يحصل عليه غير بالفلوس اللي بقت معايا، فحواره كله هيبقى معايا أنا.
ودلوقتي بقى يلا بينا عشان نقوم نتعشى سوى.
اتجه بها نحو الخارج لتتقابل عينه مع عين عنيدته، تلك الجميلة المزينة بحجابها كقطعة حلوى مغلفة بأتقان ليزيد غلافها من جمالها،
لكنها عابثة الوجه موصودة اليدين حول صدرها، ويبدو أنها تقف منذ فترة تراقب الموقف.
يعلم جيداً انها تفكر في مسكة يده للأخرى، ولا يشغلها سوى ذلك الأن، بل وربما أنها ظنت به السوء داخل عقلها الذي دائماً ما يتسرع في الحكم عليه.
لعن قسوته عليها، لكنه أصر بداخله ان يظل يروضها حتى ترضخ له وتعرف ان قلبه لا يوجد بداخله سواها
زفر أنفاسه وظل محتفظ بيد ليلي داخل قبضته وأقترب منها، حاول جذبها تحت ذراعه لكنها رفضت قربه وأعطته ظهرها قاصدة الصعود للأعلى.
-أسفه اني دخلت عليكم كده من غير استأذن بس الباب كان مفتوح، انا جيت بس عشان اقولكم انهم حضرو العشا على السفرة.
قبل أن تصعد درجة واحدة كان هو محاوط خصرها مجتذبها اليه بعنف عائداً بها إلى طاولة الطعام.
-ولما هو العشا جاهز على السفرة، انتِ طالعة فوق ليه.
-ماليش نفس مش عايزة أكل، فيها حاجة دي.
-أه فيها أنا ماكلتش ومش هاعرف أكل وانتِ قاعدة من غير أكل، يا ريت بقى تقعدي تاكلي بهدوء وبلاش نعمل مشكلة قصاد الضيفة اللي عندنا.
نفضت يده من حول خصرها وارتفع صوتها بعض الشئ وهي تجلس أمام ليلي تناظرها بتحدي.
-ضيفة ايه بقى، هي ليلي غريبة، دي بقت صاحبة بيت خلاص، كلي يا حبيبتي وخدي راحتك على الأخر.
ثم التفتت إلى الجانب الاخر هامسة.
-ولا هاتخدي راحتك أكتر من كده ايه، دا مش ناقص غير انك تقعدي ملط.
-بتقولي حاجة يا مريم.
رمقته بنظرة مغتاظة، أمسكت بتلك الشوكة الموضوعة بجانب طبقها وغرزتها في قطعة البانية، ثم أمسكت بالسكين وبدئت تقطعها بعنف.
-بقولك كل يا صابر.
طريقة تقطيعها بالسكين جعلته يشعر بغيظها، فقرر أثارة جنونها أكثر.
-مانا باكل يا حبيبتي بس كنت عايز أوضح ليكم حاجة أنتو الاتنين.
انتبهت ليلي لما قال وسبقت مريم في السؤال.
-حاجة ايه دي.
-اليومين الجاين هيبقو صاعبين شوية علينا، عشان كده مافيش واحدة منكم هتخرج من البيت.
-نعمممم
هذا كان رد مريم التي القت الشوكة من يدها بغضب وأحتلت الدهشة ملاحمها
تفاجئ هو بردها، رفع حاجبه الأيمن مستنكراً اسلوبها في الحديث.
-في ايه يابت مالك، أظن مافيش حاجة من كلامي مش مفهومة، قولت انتو الأتنين مش هتخرجو من البيت.
لتاني مرة تقاطعها ليلي وتسبقها في الحديث.
-طب وشغلنا يا صابر، على ما أعتقد انك هترجع شركة باباك، يبقى لازم أنا اكون موجودة في فرع الشركة بتاعتنا.
-لاء مش لازم، أنا هباشر كل حاجة، بس المهم أكون مطمن عليكو.
كورت قبضتها و وضعتها أسفل ذقنها، ومع أنتهاء كلمته كانت واقفة من على مقعدها.
-رايحة فين يا مريم.
-شبعت يا صابر شبعت.
جرت إلى الأعلى تحت نظرات ليلي التي شعرت بغضبها.
-هي مالها مريم زعلانة ليه.
-عشان لسة النهاردة بس كانت بتتفق معايا علي انها ترجع الشغل تاني، وانا كنت وافقت.
احنت رأسها متصنعة الخجل وهمست.
-أنا اسفة بجد شكلي بوظت ليكم ترتيبكم لحياتكم الجاية.
-بطلي غباء انتِ كمان، قولتلك انتِ اختي ومافيش واحد بيسيب اخته في أزمة لوحدها من غير ما يقف معاها.
-طب ممكن تقعد معايا شوية أنا بجد نفسياً تعبانة اوي، ولما تطلع ابقى اتكلم معاها بهدوء بلاش تخليها تنام زعلانة.
-ماشي أنا مش هاطلع دلوقتي أصلاً لسه عندي شوية حاجات هاعملها في المكتب،
وأنتِ كلي طبقك واتصرفي على انك في بيتك، بلاش تعملي فيها ضيفة كده وعايزة تيجي تقعدي معايا في المكتب لما تخلصي أبقي تعالي.
وبعد مرور ساعتين او اكثر فتح الباب بهدوء وجد الغرفة معتمة، فظن أنها غافية في فراشهم، وذهب إلى غرفة الملابس ليبدل ملابسه،
وعندما دلف إليها وقف متسمراً جاحظ العينين.
إنها تفترش الأرض بجسدها ومازلت ترتدي حجابها وفستانها الطويل.
-ايه اللي انتِ عاملاه دا، نايمة هنا ليه يا عملي الأسود في الدنيا، هو يعني من قلة السراير في البيت يا مريم.
كانت بالفعل قد غفت دامعة العينين، لكن صوت صراخه العالي افزعها واضطرت ان تعتدل جالسة.
-انت بتزعقلي كده ليه، ملاكش دعوة بيا انام مطرح ما انا عايزة يا اخي.
-إنتِ عايزة تجنيني، بصي ماتخلنيش انفعل عليكي اكتر من كده، اتفضلي قومي غيري هدومك دي، وتعالي نامي في سريرك يلاا.
-لاء مش هاعمل كده، انا مش تحت أمرك عشان كل شوية تأمرني بحاجة، والبس واقلع على مزاجك.
-هتنامي بحجابك يا غبية.
-وانت عايزني اقلعه ليه، ما كفاية عليك الست هانم بتاعتك، روح اقعد معاها براحتك واترفج زي ما انت عايز، دي حتى الفرجة عندها ببلاش.
بسرعة البرق كان مجتذبها من علي الأرض و وضع يده على ثغرها قاصداً اسكاتها.
-بس اخرسي وبطلي غيرتك اللي مش بتجبلنا غير النكد دي،
الست هانم اللي انتِ بتقولي عليها دي مش مراتي مايهمنيش لبسها في حاجة ولا أقدر ابص عليها
عارفة ليه يا غبية، عشان عيني مليانة بيكي، انتِ الوحيدة اللي اخاف حد يبصلها وعيني ماتحبش تشوف غيرها.
مع أن حديثة كان يعم بالعشق، لكنه كان مغلف القسوة، ظلت أصابع يده تضغط على لحم ذراعيها حتى ادمعت اعينها وتأوهت بهمس،
انتبه هو لذلك لكنه لم يتركها ومد يده الي احد ملابسها المرتبة على الرف واجتذبه دون أن يراه ثم وضعه بين يديها أمراً
-اتفضلي غيري هدومك دي وتعالي نامي في سريرك يا هانم.
جذب هو بنطال له وتركها وذهب بإتجاه المرحاض وهو يستمع إلى وصلة بكائها.
تمدد في الفراش وأمسك هاتفه يرتب بعد المواعيد عليه، لكنه أنتبه إلى خطواتها البطيئة الهادئة.
رفع عينه ليراها ولكم حلم بأن يراها بهذه المنامة،
حبيبته ترتدي قميص نوم اسود طويل وبحملات رفيعة وشعرها محرر خلف ظهرها وتأتي اليه دون أرادتها،
وهذا ما ازعجه وجعله يغض بصره عنها وهي بملامح وجهها الأحمر من شدة البكاء.
انقلب على جانبه الأخر واغلق ضوء المصباح استعداداً للنوم وكتم بداخله شوقه اليها.
حركته هذه جعلتها تشعر بنفوره منها، لكنها تحملت حتى لا تشمت تلك الضيفة الثقيلة على قلبها بها،
تمددت بجانبه ودثرت جسدها الغطاء جيداً وألقت عليه سؤالها الذي تكتمه بداخلها.
-ممكن اعرف انت ليه رجعت في كلامك تاني، هو انت مش كنت وافقت اني ارجع شغلي،
ولا عشان خاطر الست ليلي هاتحرمني من شغلي.
وضع يده على جرحه وزفر أنفاسه بغضب، ثم التف إليها مزمجراً بهدوء.
-الله يخربيتك على بيت ليلي،
عارفة انتِ لو مانمتيش دلوقتي هاكسر دماغك دي، الكلمة اللي اقولها ليكي تتسمع نامي.
لم تجد مكان أخر تختبئ فيه من جمود عينه سوى صدره العاري،
القت بنفسها في داخله وظلت تشهق محاولة كتم أنفاسها.
اغمض هو عيناه بحزن على ما وصلوا اليه، أغلق عليها بيديه احتضنها جيداً، ووضع قبلة رقيقة على عنقها ثم همس لها.
-عايزة تعرفي رجعت في كلامي ليه، عشان بكره هيبقى بداية الحرب بجد،
مش عايز ابقى واقف قصادهم وانتِ معايا، مش عايزهم يهزموني بيكي او ابقى واقف خايف عليكي.
رفعت له عيناها الدمعة، ونظرت اليه بحب.
-بلاش يا صابر، مش عايزك تعادي حد فيهم كفاية بقى اللى حصلك من وراهم.
نظر الي عيناها التي تسكره نظرة طويلة، والتقط من شفتيها قبلة رقيقة، ثم ضم رأسها الي صدره مره اخرى.
-حقي مش هاسيبه لحد تاني، وهاخده من كل اللي أذوني لو هما مين، نامي يا مريم وارتاحي و ريحيني دلوقتي،
عشان اللي جاي مافيهوش راحة.
-بقيت بخاف عليك منك، إنت اتغيرت قوي يا صابر.
-نفضها من بين يده واعطاها ظهره.
-مش ذنبي، هما اللي قتلوا جوايا صابر الطيب، خليهم بقى يتعاملوا مع صابر الجديد.
وقف أمام المراءه يشاهد تلك الكدمات التي لونت عينه المتورمة بمجموعة الوان مختلفة.
ثم أمسك هاتفه وبدء يقلب في صورهم معاً وهو يتوعد لها.
-وحياة جمالك ودلعك عليا لهرجعك ليا تاني يا ليلي، مش هاسيبك حتى لو اضطريت ان اقتل صابر بإيدي هأقتله
بس تكوني ليا إنشالله حتى لساعة واحدة.
-وتقتل عشانها ليه يا غبي، هو إنت يا بني مابتتعلمش من أخطائك ابداً.
استدار للخلف منتبهاً لها.
-وحياتك يا ماما انا مش ناقص تقطيم كفاية غضب ابويا عليا من ساعة اللي حصل.
-عشان غبي ومش عايز تسمع كلامي ابداً،
قولتلك أقف جنب ابوك وصابر في المستشفى، سيبته وجيت قعدت جانبي، قولتلك خليك في طوع الز.. ده لحد ما نعرف نوياه،
عاديته وخليته يشلفط لك وشك، اعمل معاك ايه بس مش عارفة.
استدار إلى المراءة مرة أخرى، وكأنه يتوعد لأخيه.
-مش هاسيبه وهاتشوفي يا ماما، وتاري هاخده منه قبل ما أخده منها.
-مش بالهمجية والصوت العالي يا ابن درية، تعالى أقعد جانبي كده وانا اقولك تاخد تارك منه ازاي من غير ما تظهرله في الصوره انك معاديه.
اهٍ منك أيتها اللعوب، تريدين ان يعادي الأخ اخيه ولا تفكري في مصير زوجك اذا خسر أحدهم.
جلس بجانبها على الأريكة، انحنى بجزعه العلوي واستند بمرفقيه على ركبتيه، وبوجهة محتقن من شدة الغضب نظر إليها وهتف.
-عايزانى اعمل ايه.
مازلت تتلاعب بالكلمات وتبخ سمها داخل أذنه.
-ترجع ليه وتعتزرله، عايزاك تخليك في طوعه لحد ما نشوف مايته إيه
برفعة جانب شفاه العلوية سخر من هزيها.
-وانتِ فاكرة انه بعد اللي حصل، هيقبل يكلمني ولا يبص في وشي حتى، ماكنتش اعرف إنك طيبة كدة يا ماما.
-لاء هيكلمك ويسامحك كمان، ماتنساش إنت انه كان بيحبك برغم كل اللي كان شايفه من أبوه لكن كان بيدلعك ويخاف عليك.
-إنتِ لسه فاكراه زي ما هو، صابر اتغير يا ماما بقى فرج النغاس نمرة اتنين.
-حتى لو كان زي ابوه، افتكر انت برضو إن فرج النغاس كان بيعديلك كل أخطائك وعمره ما قسي عليك.
وقف من جانبها يحك ذقنه بإصبعيه، وكأنه يفكر في شئ ما بداخله وإذا به يهمس لنفسه.
-صح كده لازم اتصالح انا وصابر وهو هيكون المدخل ليكِ يا ليلى.
أشرقت شمس اليوم الثاني، وكأن الوقت لم يمر عليهما.
فهو مازال محتجزها بين ذراعيه، وهي تلف يدها حول خصرها بتملك وتريح رأسها على صدره،
ومع أنها غافية لكن أبتسامتها الجميلة كانت تزيد وجهها جمالاً وتعبر له عن مدى رضائها بحالهم.
فتح هو عينيه أولاً ليرى وجهها الجميل، أبتسم لها بحب وبدء يرتب خصلات شعرها الملتصقة به ويعيدها للخلف.
شعرت هي بلمسته انشقت أهدابها رويداً، وأفرجت عن بندقيتها، وأخيراً ما تواجهت معه.
-صباح الخير
أبتسم على نطقها الطفولي، وقبل وجنتها قبلة رقيقة ثم همس لها.
-صباح الفل، انا لو واخد بنتي في حضني وأنا نايم مش هتقولها بطفولة كدة.
أخجلها اللعين برده، فأحنت رأسها سريعاً وأختبئت في صدره ثم همست له بدلالها المحبب له.
-طب مش انت قولتلي إن انا كل حاجة ليك.
وضع سبابته أسفل ذقنها، ورفع وجهها بهدوء لتتقابل أعينهم مرة ثانية.
-صح يا قلبي انتِ كل حاجة ليا، أمي وأختي ومراتي وبنتي وحبيبتي.
مع كل صفة كان يلقيها عليها، كان يسرق من ثغرها المنمق قبلة رقيقة،
ومع أخر كلمة قالها دامت شفتيه ملتصقة بشفتيها لمدة طويلة.
وبعدها تركها ونفض الغطاء من عليهما منبهاً لها.
-يلا قومي يا كسلانة، الساعة تمانية وانا عندي شغل كتير، عايز أشرب قهوتي من إيدك قبل ما أروح الشركة
مانا مش هلاقيكي هناك عشان تعمليهالي.
تحرك نحو المرحاض وهو يحدثها وقبل ان يحرك مقبضه وجدها تقف أمامه وتحاصر خصره متشبثه به بخوف.
-عشان خاطري يا صابر بلاش تروح النهاردة كمان.
زفر أنفاسه متزكراً ما ينتويه وحل وثاق يديها من حول خصره، وزجها من أمامه برفق ليتوجه داخل المرحاض هاتفاً.
-النهاردة بالذات لازم اروح يا قلبي، اصل في مثل كده سمعت واحد بيقوله عندكم في الحي،
بيقولك اضربي على الحديد وهو سخن.
اغلق الباب بعدها وتركها تقف مندهشة.
نفضت يديها بقلة حيلة وهمست.
-يا خوفي من اللي انت ناوي عليه يا صابر.
انهت كلمتها وتحركت نحو غرفة ملابسها بدلت قميص نومها بمنامة محتشمة وجمعت شعرها بطريقة مرتبة ثم ترجلت للاسفل، لتفعل له ما يريد
وذهبت رأساً الى غرفة الطهي، ثم أمرت الخادمات بتحضير وجبة الفطار، وإعداد طاولة الطعام، وبدئت هي في إعداد القهوة له.
إلى أن انتبهت بدخول تلك الضيفة الثقيلة على قلبها إليها.